فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فائدة في الخروج على الإمام:

قال بعض العلماء: في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر؛ فالكافرْ يُقتل إذا قاتل بكل حال، والباغي إذا قاتل بنية الدفع.
ولا يُتْبَعُ مُدْبِر ولا يُجْهَز على جريح. اهـ.

.فائدة في ظاهر الآية:

قيل لابن عرفة: في ظاهر الآية تناف لأن {اقتلوهم حيث ثقفتموهم} يقتضي الأمر باستِئْصالِهِم وعدم إحيًاء أحد منهم فلا يبق للاخراج محل.
وقوله: {وَأَخْرِجُوهُم} يقتضي إحياء بعضهم حتى يتناوله الإخراج.
فأجاب بوجهين: الأول منهما: أنّ الاستيلاء عليهم تارة يكون عاما بحيث لا تبقى لهم ممانعة بوجه، فهنا يقتلون وتارة يكون دون ذلك بحيث يتولّى المسلمون على وطنهم ويمتنعون هم منهم في حصن ونحوه، حتى لا يكون لهم قوة على المسلمين ولا للمسلمين قدرة على قتلهم فهنا يصالحونهم على أن يخرجوا لينجوا بأنفسهم خاصة. انتهى.
الثاني: أنهم يخرجون أولا ثم يقتلون بعد الإخراج والواو لا تفيد رتبة ففي الآية التقديم والتأخير.
قال ابن عرفة: في الآية عندي إيماء إلى كون فعل الطاعة إذا وافق غرضا دنيويا فلا يقدح ذلك فيه ولا ينقص ثوابه لقوله: {مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}.
قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى عن ابن عرفة أنه تقرر أن الإمام مخير في الجهاد بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما الفدية وإما الأسر، والآية تقتضي تحتم القتل من غير تخيير. وأجاب بأنه قد يكون تخصيصا.
قوله تعالى: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم}.
وقرئ {فَإِن قَتَلُوكُمْ} أي فإن قتلوا بعضكم أو فإن أرادوا قتلكم، وقول الله جل جلاله: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافرين} بعد أن قال: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فظاهره أن الكافرين ليس لهم جزاء إلا هذا، مع أن جزاءهم أن يقاتلوهم حيث ثقفوهم حتى يُسلموا، فيجاب بهذا إما منسوخ أو مخصوص. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ.
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ قَالَ: أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي مُسْلِمٌ قَالَ: «لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ». اهـ.

.من فوائد تقي الدين السبكي:

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
فِي كِتَابٍ افْتَتَحَهُ فِي تَأْوِيلِ قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ}.
فَكَتَبَ فِيهِ مَا نَصُّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَصَمَنَا مِنْ الْفِتَنِ، وَهَدَانَا إلَى أَرْشَدِ سُنَنٍ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ بَيَّنُوا لَنَا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ؛ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا عَلَى تَوَالِي الزَّمَنِ، وَبَعْدُ فَإِنَّا لا نُحْصِي مَا لِلَّهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعْمَةٍ وَمِنَّةٍ، وَمَا حَمَانَا بِهِ عَنْ كُلِّ مِحْنَةٍ؛ وَجَعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا وِقَايَةً وَجُنَّةً وَأَرْشَدَنَا إلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ؛ وَجَعَلَ لَنَا عَلَى الْعَدْلِ قُوَّةً وَمِنَّةً، وَأَنَّهُ جَرَى الْكَلامُ فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ فِي قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} وَأُطْلِقَتْ فِيهِ الأَعِنَّةُ، وَأَعْرَى بِهِ بَعْضُ ذَوِي الضِّنَةِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الإِلْقَاءِ بَيْنَ النَّاسِ لِلْقَتْلِ مَظِنَّةٌ، فَخَشِيتُ مِنْ اسْتِبَاحَةِ دَمِ مُسْلِمٍ بِالضَّغِنَةِ، فَأَرَدْتُ ذِكْرَ تَفْسِيرِ الآيَةِ، وَسَمَّيْته تَأْوِيلَ الْفِطْنَةِ فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} وَالشِّرْكُ بِاَللَّهِ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ.
وَقَدْ بَيَّنْت فِيمَا مَضَى أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ الابْتِلاءُ وَالاخْتِبَارُ، فَتَأْوِيلُ الْكَلامِ وَابْتِلاءُ الْمُؤْمِنِ فِي دِينِهِ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ فَيَصِيرُ مُشْرِكًا بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إسْلامِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِ وَأَضَرُّ مِنْ أَنْ يَقْتُلَ مُقِيمًا عَلَى دِينِهِ مُتَمَسِّكًا بِمِلَّتِهِ مُحِقًّا فِيهِ، كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ثنا أَبُو عَاصِمٍ عِيسَى ثنا عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} قَالَ ارْتِدَادُ الْمُؤْمِنِ إلَى الْوَثَنِ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَقْتُلَ، حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ ثنا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ ثنا يَزِيدُ ثنا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ} يَقُولُ الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى ثنا إِسْحَاقُ ثنا أَبُو زُهَيْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنْ الضَّحَّاكِ قَوْلَهُ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ يَقُولُ الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ، حَدَّثْت عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيعِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ يَقُولُ الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ ثنا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ قَالَ الْفِتْنَةُ الشِّرْكُ حَدَّثْت عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ سَمِعْت أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ أَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْت الضَّحَّاكَ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ قَالَ الشِّرْكُ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ أَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ قَالَ فِتْنَةُ الْكُفْرِ انْتَهَى مَا نَقَلْته مِنْ تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ الْمُسَمَّى بِالْبَيَانِ وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلُهُ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوَّادٍ ثنا آدَم عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلُهُ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي مَالِكٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ حَدَّثَنِي أَبِي ثنا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنَا جَرِيرٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ قَالَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَيْهَا أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ انْتَهَى مَا نَقَلْته مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ يَعْنِي وَشِرْكُهُمْ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِكُمْ إيَّاهُمْ فِي وَالْحَرَمِ وَالْحُرُمِ وَالإِحْرَامِ وَذَكَرْنَا مَعَانِيَ الْفِتْنَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي سَمَّى الْكُفْرَ فِتْنَةً لأَنَّ الْكُفْرَ إظْهَارُ الْفَسَادِ عِنْدَ الاخْتِبَارِ وَأَصْلُ الْفِتْنَةِ الاخْتِبَارُ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى حَيْثُ أَخَذْتُمُوهُمْ:

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: خَيِّرْهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَك فِي أَسْرَى بَدْرٍ: الْقَتْلَ أَوْ الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ مِنْهُمْ قَاتِلًا مِثْلَهُمْ. قَالُوا: الْفِدَاءَ، وَيُقْتَلُ مِنَّا.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ؛ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اُقْتُلُوهُ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}:

فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُحْكَمٌ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ حَضَرْت فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ طَهَّرَهُ اللَّهُ بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُتْبَةَ الْحَنَفِيِّ وَالْقَاضِي الرَّيْحَانِيِّ يُلْقِي عَلَيْنَا الدَّرْسَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بَهِيُّ الْمَنْظَرِ عَلَى ظَهْرِهِ أَطْمَارٌ، فَسَلَّمَ سَلَامَ الْعُلَمَاءِ، وَتَصَدَّرَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ بِمَدَارِعِ الرِّعَاءِ، فَقَالَ لَهُ الرَّيْحَانِيُّ: مَنْ السَّيِّدُ؟ فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ سَلَبَهُ الشُّطَّارُ أَمْسِ، وَكَانَ مَقْصِدِي هَذَا الْحَرَمَ الْمُقَدَّسَ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَاغَانَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فَقَالَ الْقَاضِي مُبَادِرًا: سَلُوهُ، عَلَى الْعَادَةِ فِي إكْرَامِ الْعُلَمَاءِ بِمُبَادَرَةِ سُؤَالِهِمْ.
وَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، هَلْ يُقْتَلُ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَسُئِلَ عَنْ الدَّلِيلِ، فَقَالَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}.
قُرِئَ: {وَلَا تَقْتُلُوهُمْ}، {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ}، فَإِنْ قُرِئَ {وَلَا تَقْتُلُوهُمْ} فَالْمَسْأَلَةُ نَصٌّ، وَإِنْ قُرِئَ {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ} فَهُوَ تَنْبِيهٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ الْقِتَالِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقَتْلِ كَانَ دَلِيلًا بَيِّنًا ظَاهِرًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقَتْلِ.
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ مُنْتَصِرًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَإِنْ لَمْ يَرَ مَذْهَبَهُمَا عَلَى الْعَادَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
فَقَالَ لَهُ الصَّاغَانِيُّ: هَذَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْقَاضِي وَعِلْمِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي اعْتَرَضْت بِهَا عَلَيَّ عَامَّةٌ فِي الْأَمَاكِنِ، وَالْآيَةَ الَّتِي احْتَجَجْت بِهَا خَاصَّةٌ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ، فَأَبَهَتْ الْقَاضِي الرَّيْحَانِيُّ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ.
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَهْلَ بِلَادِنَا، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ الْعَامَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْسَخُ الْخَاصَّ، وَهَذَا الْبَائِسُ لَيْتَهُ سَكَتَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، وَأَمْسَكَ عَمَّا لَا يَفْهَمُ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَسَائِلَ مُجَرَّدَةٍ.
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ».
فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً؛ فَإِنْ لَجَأَ إلَيْهَا كَافِرٌ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَأَمَّا الزَّانِي وَالْقَاتِلُ فَلابد مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ إلَّا أَنْ يَبْتَدِئَ الْكَافِرُ بِالْقِتَالِ فِيهَا فَيُقْتَلُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}:

هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قَاتَلَ قُتِلَ بِكُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ الْبَاغِي الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إذَا قَاتَلَ يُقَاتَلُ بِنِيَّةِ الدَّفْعِ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ.

.المسألة الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}:

يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ.
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ قَالَ: أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي مُسْلِمٌ قَالَ: «لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ». اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}.
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} الآية. قال: عنى الله بهذا المشركين.
وأخرج الطستي عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: {ثقفتموهم} قال: وجدتموهم. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول حسان:
فإما يثقفن بني لؤي ** جذيمة إن قتلهم دواء

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {والفتنة أشد من القتل} قال: الشرك أشد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {والفتنة أشد من القتل} قال: الفتنة التي أنتم مقيمون عليها أكبر من القتل.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {والفتنة أشد من القتل} قال: ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل محقًا.
وأخرج عبد بن حميد من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم} كلها بالألف {فاقتلوهم} آخرهن بغير ألف.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي الأحوص قال: شمعت أبا إسحاق يقرأهن كلهن بغير ألف.
وأخرج عبد بن حميد عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها كلّهن بغير ألف.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} قال: حتى يبدأوا بالقتال، ثم نسخ بعد ذلك فقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} [البقرة: 193].
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود والنحاس معًا في الناسخ عن قتادة قوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} وقوله: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} [البقرة: 217] فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين جميعًا في براءة قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]. {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التوبة: 36].
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {فإن انتهوا} قال: فإن تابوا. اهـ.